رحل في منفاه الباريسي عشية مفترق مفصلي في تاريخ مصر. الكاتب الماركسي ارتكز مشروعه الفكري على التوجّه شرقاً بعيداً عن وهم الغرب، وكيفية تحقيق النهضة الحضارية التي ظلّت تشغله حتى بعد «ثورة 25 يناير»
وحيداً في باريس التي اختارها منفى له، رحل أنور عبد الملك (1924)، تاركاً عدداً هائلاً من المؤلفات. لا تفاصيل حول وفاته: هل فعلاً غاب منذ أسبوع كما تردّد ولم تعرف القاهرة بالخبر سوى الأحد، هي المشغولة بمستقبلها تحت حكم الإسلاميين؟ عبد الملك الذي عاش سنواته الأخيرة متنقلاً بين باريس والقاهرة، حالة فريدة في الفكر المصري. إنّه أقرب إلى المفكرين الذين يمهدون الطريق ليسير عليها الآخرون. يكتفي هو بـ «الرصاصة الأولى» التي ينطلق بعدها الرصاص الذي يصيب.
«عشت حياة بلا حدود» هكذا لخّص مسيرته الطويلة سياسياً وثقافياً. والده الذي قاد منظمة «اليد السوداء»، التي اعتبرت بمثابة «التنظيم السري» لحزب «الوفد» المصري خلال ثورة 1919، لم يتوقف عن تعليمه «كل شيء. التاريخ والجغرافيا، والمعارك الكبرى، واللغات». وحين رحل الأب عندما كان أنور الصغير قد تجاوز ثماني سنوات، حلّ مكانه عمه فؤاد مؤسس «جمعية الفنون الجميلة». اصطحب الصغير إلى المتاحف والمسارح والأوبرا. باختصار، فتح عينيه على الفن والفلسفة والخيال. شاهد نجيب الريحاني، واستمع إلى أم كلثوم وأغرم بالموسيقى الكلاسيكية. اختار دراسة الفلسفة في «جامعة عين شمس». وعندما تخرّج، عمل صحافياً في منابر عدة لتسع سنوات. في بيته القاهري، زرع صور جمال عبد الناصر ومحمد علي باشا، ورفاعة الطهطاوي، وسون تزو، وشهدي الشافعي على جدران المنزل. هذه الشخصيات لعبت دوراً مهماً في تكوينه الثقافي. الطهطاوي ومحمد علي هما صاحبا «نهضة مصر»، وجمال عبد الناصر «بطل عظيم» لكنّه «دمّر الطبقة السياسية في مصر». أما الفيلسوف الصيني الشهير سون تزو، فلم يكن يستغني عن كتابه «فن الحرب». وأخيراً، يأتي شهدي عطية الشافعي، أحد أبرز المفكرين الماركسيين المصريين (اغتيل في سجون عبد الناصر في الستينيات) والمعلم السياسي الأول لعبد الملك. مع شهدي، التحق بأحد التنظيمات الشيوعية، لكن ألقي القبض عليه لمدة عام قبل أن يهرب ويختبئ في منزل الفنانة الشهيرة تحية كاريوكا، ثم يخرج إلى فرنسا ليواصل دراسته الفلسفة وعلم الاجتماع في عاصمة الأنوار.
في باريس، التحق بـ «جامعة السوربون» وحصل على الدكتوراه في علم الاجتماع عام 1969، وصدرت الترجمة العربية للدراسة بعنوان «نهضة مصر». انشغل أيضاً بالتطورات التي حدثت في المجتمع المصري بعد ثورة يوليو، وكان نتيجتها كتابه «المجتمع المصري والجيش» الذي أعجب به عبد الناصر. وعندما وقعت النكسة، طلب العودة إلى مصر، لكن عبد الناصر نصحه بالبقاء فـ «وجوده هو نفسه، وهو الرئيس غير آمن في مصر».
في باريس، كتب عن مصر والعرب وكان متّهماً من الجميع. في المحروسة، تم إقصاؤه من اليسار الذي بدأ ينظر إليه بريبة، وخصوصاً بعدما بعث رسالة إلى عبد الناصر مؤيداً المصالحة بين اليسار والثورة، كما اعتبرته بعض التيارات السياسية منظراً للاتحاد الاشتراكي. واعتُبر أنّه قام في الخارج بالدور الذي أداه هيكل في الداخل، وخصوصاً في كتابه «المجتمع المصري والجيش» الذي ترجم في بيروت تحت عنوان «مصر... مجتمع يبنيه العسكريون» (دار الطليعة). وفي باريس، اتهم أيضاً بأنه «الجاسوس المصري» كما قال ساخراً. كتب مؤلفات عدة عن النهضة العربية، الفكرة التي كانت مشروعه الأساس الذي حاول من خلاله إنهاء حالة الغيبوبة التي يعانيها الجميع. وكان أول كتبه «دراسات في الثقافة الوطنية» (دار الطليعة ـــ 1967)، ثم «الجيش والحركة الوطنية» (ابن خلدون ــ 1974)، و«الفكر العربي في معركة النهضة» (دار الآداب ــ 1974)... وتواصلت كتبه التي دعا فيها إلى التوجّه إلى الشرق باعتباره الخلاص، معتبراً أنّ «مؤتمر باندونغ» (1955) كان أساس الدعوة لإقامة النظام العالمي الجديد في عصرنا، وركز في هذه الكتابات على أنّ «الإيمان» أحد الأسس الهامة التي يقوم عليها مشروع النهضة في الوطن العربي. كثيرون اعتبروا أنّ هذا الطرح يتعارض مع منهج الماركسي، لكن بتأمل سيرته الذاتية، سنجده يؤكد: «ظللت عاماً ونصف عام أجلس على حصيرة مساء كل خميس في ميدان الحلمية من أجل الاستماع إلى الشيخ حسن البنا أتعلم منه». لذا لم يكن غريباً أن يحرص هو القبطي على الصوم ثلاثة أيام في رمضان. أول يوم، وليلة القدر، والجمعة الحزينة. شهد عبد الملك الثورة المصرية وكانت وصيته عبر مقالاته في «الأهرام»: «الوطنية هي الحل» متسائلاً: «أليس من الواجب أن تعود أمتنا المصرية شعباً ودولة إلى أركان تعاليم حضارتنا العظيمة؟ كيف أهدرنا رسالة الفلاح الفصيح الذي عرف كيف يشق الطريق إلى مجتمع عادل منتج، صاحب الإبداع، منتج الثراء، رائد التوحيد؟ ثم كيف تكون العلاقة بين تاريخ الثورات في ديار مصر المحروسة ونهضتها الحضارية، جوهر المشروع الوطني؟».
[عن جريدة "الأخبار" اللبنانية.]